فصل: مسائل من أحكام الأيمان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


أَخبَر تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة أنهم إن ارتد بعضهم فإن الله يأتي عوضًا عن ذلك المرتد بقوم من صفاتهم الذل للمؤمنين، والتواضع لهم ولين الجانب، والقسوة والشدة على الكافرين، وهذا من كمال صفات المؤمنين، وبهذا أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فأمره بلين الجانب للمؤمنين، بقوله‏:‏ ‏{‏وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ، وأمَره بالقسوة على غيرهم بقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ ، وأثنى تعالى على نبيه باللين للمؤمنين في قوله‏:‏ ‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ‏}‏ وصرح بأن ذلك المذكور من اللين للمؤمنين، والشدة على الكافرين، من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، بقوله‏:‏ ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ‏}‏‏.‏

وقد قال الشاعر في رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما حملت من ناقة فوق رحلها أبر وأوفى ذمة من محمد

وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه وأمضى بحد المشرفي المهند

وقال الآخر فيه‏:‏ وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها أشد على أعدائه مِن محمد

ويفهم من هذه الآيات أن المؤمن يجب عليه أن لا يلين إلا في الوقت المناسب للين، وألا يشتد إلا في الوقت المناسب للشدة، لأن اللين في محل الشدة ضعف، وخور، والشدة في محل اللين حمق، وخرق، وقد قال أبو الطيِّب المتنبي‏:‏

إذا قيل حلم قل فللحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جَهل

* * *

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الكتاب لو أطاعوا الله، وأقاموا كتابهم باتباعه، والعمل بما فيه، ليسّر الله لهم الأرزاق وأرسل عليهم المطر، وأخرج لهم ثمرات الأرض‏.‏

وبين في مواضع أُخَر أن ذلك ليس خاصًّا بهم، كقوله عن نوح وقومه ‏{‏فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا‏}‏ وقوله عن هود وقومه‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ‏}‏وقوله عن نبينا عليه الصلاة والسلام وقومه ‏{‏وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏ ‏.‏

على أحد الأقوال وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى‏}‏ ومفهوم الآية أن معصية الله تعالى، سبب لنقيض ما يستجلب بطاعته، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏، ونحوها من الآيات‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة، أن أهل الكتاب قسمان‏:‏

طائفة منهم مُقتصدة في عملها، وكثير مِنهم سيىء العمل، وقسّم هذه الأمة إلى ثلاثة أقسام في قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ‏}‏ ووعد الجميع بالجنة بقوله‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ‏}‏ ‏.‏

وذكر القسم الرابع‏:‏ وهو الكفّار منها بقوله ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ‏}‏ ‏.‏

وأظهر الأقوال في المقتصِد، والسابِق، والظالم، أن المقتصد هو من امتثل الأمر، واجتنب النهي، ولم يزِد على ذلك، وأن السابق بالخيرات هو من فعل ذلك، وزاد بالتقرب إلى الله بالنوافل، والتورُّع عن بعض الجائزات، خوفًا من أن يكون سببًا لغيره، وأن الظالم هو المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏، والعلم عند الله تعالى‏.‏

{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً‏}‏‏.‏

أمر تعالى في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أُنزل إليه، وشهد له بالامتثال في آيات متعدِّدة كقوله‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ‏}‏، ولو كان يُمكن أن يكتم شيئًا، لكَتَم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ‏}‏، فمن زعم أنه صلى الله عليه وسلم، كَتم حرفًا مما أُنزل عليه، فقد أعظم الافتراء، على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

ذكر تعالى في هذه الآية الكَريمة أن بني إسرائيل عموا وصموا مرتين، تتخللهما توبة مِن الله عليهم، وبيَّن تفصيل ذلك في قومه‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا‏}‏ فبين جزاء عَماهم، وصَمَمهِم في المرة الأولى بقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً‏}‏ ، وبين جَزاء عماهم، وصَمَمِهم في المرة الآخرة بقوله ‏{‏فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا‏}‏، وبين التوبة التي بينهما بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا‏}‏ ‏.‏ ثم بين أنهم إن عادوا إلى الإفساد عاد إلى الانتقام منهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا‏}‏ فعادوا إلى الإفساد بتكذبيه صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته التي في التوراة، فعاد الله إلى الانتقام منهم، فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم فذبح مقاتلة بني قريظة، وسبى نساءهم، وذراريهم وأجلى بني قينقاع، وبني النضير‏.‏ كما ذكر تعالى طرفًا من ذلك في سورة الحشر، وهذا البيان الذي ذكرنا في هذه الآية ذكره بعض المفسرين، وكثير منهم لم يذكره، ولكن ظاهر القرآن يقتضيه، لأن السياق في ذكر أفعالهم القبيحة الماضية من قتل الرسل وتكذبيهم، إذ قبل الآية المذكورة ‏{‏كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ‏}‏ ‏.‏

ومعنى ‏{‏وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ ظنوا ألا يصيبهم بلاء وعذاب من الله، بسبب كُفرهم، وقتلهم الأنبياء، لزعمهم الباطل، أنهم أبناء الله، وأحباؤه، وقوله‏:‏ ‏{‏وَصَمُّواْ كَثِيرٌ‏}‏ أحسن، أوجه الإعراب فيه‏.‏ أنه بدل من واو الفاعل في قوله‏:‏ ‏{‏َعَمُواْ وَصَمُّواْ‏}‏، كقولك‏:‏ جاء القوم أكثرهم، وقوله‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ قرأه حمزة، والكسائي، وأبو عمرو بالرفع، والباقون بالنصب، فوجه قراءة النصب ظاهر، لأن الحسبان بمعنى الظن، ووجه قراءة الرفع، تنزيل اعتقادهم لذلك ـ ولو كان باطلًا ـ منزلة العلم‏.‏ فتكون أن مخففة من الثقيلة، والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ‏}‏‏.‏

أشار في هذه الآية، إلى أن الذّين قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ‏}‏ لو تابوا إليه مِن ذل، لتاب عليهم، وغفر لهم، لأنه استعطفهم إلَى ذلك أحسن استعطاف، وألطفه، بقوله‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ‏}‏، ثم أشار إلى أنهم إن فعلوا ذلك غفر لهم بقوله‏:‏ ‏{‏والله غفور رحيم‏}‏، وصرَّح بهذا المعنى عامًا لجميع الكفار بقوله‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏‏.‏

ذكَر في هذه الآية الكريمة أن عيسى وأمه كانا يأكلان الطعام، وذكر في مواضع أخر، أن جميع الرسل كانوا كذلك‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا‏}‏ ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُؤْفَكُونَ‏}‏ معنى قوله‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ يصرفون عن الحقّ، والمراد بصرفهم عنه، قول بعضهم‏:‏ إن الله هو المسيح بن مريم، وقول بعضهم‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة، وقول بعضهم‏:‏ عزير بن الله ـ سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وعلى من يقول ذلك لعائن الله إلى يوم القيامة، فإنهم يقولون هذا الأمر الذي لم يقل أحد أشنع منه ولا أعظم، مع ظُهور أدلة التوحيد المبينة له، ولذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ على سبيل التعجب من أمرهم، كيف يُؤفكون إلى هذا الكفر مع وُضوح أدِلة التوحيد‏؟‏ا

‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَااتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ الذين لُعنوا على لسان داود الذين اعتدوا في السبت، والذين لعنوا على لسان عيسى ابن مريم، هم الذين كفروا مِن أهل المائدة، وعليه فلعن الأولين مسخهم قِرَدَةَ، كما بينه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ‏}‏، ولعن الآخرين هو المذكور في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ‏}‏، وذكر غير واحد أنه مسخهم خنازير، وهذا القول مَرْوِي عن الحسن، وقتادة، ومجاهد، والباقِر نقله الألوسي في تفسيره، وقال‏:‏ واختاره غير واحد، ونقله القرطبي عن ابن عبّاس، وقتادة، ومُجاهد، وأبي مالك، وذكر أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال بعض من قال بهذا القول‏:‏ إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، قال داود عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏اللهم ألبِسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين‏"‏، فمسخهم الله قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا، قال عيسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏اللهم عذِّب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابًا لم تعذّبه أحدًا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير‏"‏‏.‏

وأن هذا معنى لعنهم على لسان داود، وعيسى ابن مريم، وفي الآية أقوال غير هذا تركنا التعرض لها، لأِنها ليست مما نحن بصدده‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ‏}‏‏.‏

قد قدمنا في سورة البقرة أن المراد بما عقدتم الأيمان، هو ما قصدتم عقد اليمين فيه، لا ما جرى على ألسنتكم من غير قصد نحو ‏"‏لا والله‏"‏ و ‏"‏بلى والله‏"‏، ومنه قول الفرزدق‏:‏

ولَستُ بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم

وهذا العقد معنوي، ومنه قول الخطيئة‏:‏

قوم إذا عقدوا عقدًا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا

وقرأه حمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم ‏{‏عَقَّدتُّمُ‏}‏ بالتخفيف بلا ألف‏.‏ وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ‏{‏عَاقدْتُم‏}‏ بألف بوزن فاعل، وقرأه الباقون بالتشديد من غير ألف، والتضعيف والمفاعلة‏:‏ معناهما مجرد الفعل بدليل قراءة ‏{‏بِمَا عَقَّدتُّمُ‏}‏ بلا ألف، ولا تضعيف، والقراءات يبين بعضها بعضًا ‏"‏وما‏"‏ في قوله ‏{‏بِمَا عَقَّدتُّمُ‏}‏ مصدرية على التحقيق لا موصولة، كما قاله بعضهم زاعمًا أن ضمير الرابط محذوف‏.‏

وفي المراد باللغو في الآية أقوال أشهرها عند العلماء اثنان‏:‏

الأول‏:‏ أن اللغو ما يجري على لسان الإنسان من غير قصد، كقوله ‏"‏لا والله‏"‏ و ‏"‏بلى والله‏"‏‏.‏

وذهب إلى هذا القول الشافعي، وعائشة في إحدى الروايتين عنها، وروي عن ابن عمر، وابن عبّاس في أحد قوليه، والشعبي، وعكرمة في أحد قوليه، وعُروة بن الزبير، وأبي صالح، والضحّاك في أحد قوليه، وأبي قلابة، والزهري، كما نقله عنهم ابن كثير، وغيره‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده، فيظهر نفيه‏:‏ وهذا هو مذهب مالك بن أنس، وقال‏:‏ إنه أحسن ما سمع في معنى اللغو، وهو مروي أيضًا عن عائشة، وأبي هريرة، وابن عباس في أحد قوليه، وسليمان بن يسار، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد في أحد قوليه، وإبراهيم النخعي في أحد قوليه، والحسن، وزرارة بن أوفى، وأبي مالك، وعطاء الخراساني، وبكر بن عبد الله، وأحد قولي عكرمة، وحبيب بن أبي ثابت، والسُّدِّي، ومكحول، ومقاتل، وطاوس، وقتادة، والربيع بن أنس، ويحيى بن سعيد، وربيعة، كما نقله عنهم ابن كثير‏.‏

والقولان متقاربان، واللغو يشملهما‏.‏ لأنه في الأول لم يقصد عقد اليمين أصلًا، وفي الثاني لم يقصد إلا الحقّ والصواب، وغير هذين القولين من الأقوال تركته لضعفه في نظري، واللغو في اللُّغة‏:‏ هو الكلام بما لا خير فيه، ولا حاجة إليه، ومنه حديث‏:‏ ‏"‏إذا قلت لصاحبك، والإمام يخطب يوم الجمعة انصت، فقد لغوت أو لغيت‏"‏‏.‏

وقول العجاج‏:‏ ورب أسراب حجيح كظم عن اللغا ورفث التكلم

مسائل من أحكام الأيمان

المسألة الأولى‏:‏ اعلم أن الأيمان أربعة أقسام‏:‏ اثنان فيهما الكفَّارة بلا خِلاف، واثنان مُخْتلف فيهما‏.‏

قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصّه‏:‏ الأيمان في الشريعة على أربعة أقسام‏:‏ قسمان فيهما الكفارة، وقسمان لا كفَّارة فيهما‏.‏ خرج الدارقطني في سننه، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا خلف بن هشام، حدثنا عبثر عن ليث، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال‏:‏ الأيمان أربعة، يمينان يكفران، ويمينان لا يكفران فاليمينان اللذان يكفران، فالرجل الذي يحلف‏:‏ والله لا أفعل كذا وكذا فيفعل، والرجل يقول‏:‏ والله لأفعلن كذا وكذا، فلا يفعل، واليمينان اللذان لا يكفران، فالرجل يحلف‏:‏ والله ما فعلت كذا وكذا، وقد فعل، والرجل يحلف‏:‏ لقد فعلت كذا وكذا ولم يفعله‏.‏ قال ابن عبد البر‏:‏ وذكر سفيان الثوري في ‏(‏جامعه‏)‏، وذكره المروزي عنه أيضًا، قال سفيان‏:‏ الأيمان أربعة، يمينان يكفران، وهو أن يقول الرجل‏:‏ والله ‏"‏لا أفعل‏"‏ ثم يفعل، أو يقول‏:‏ ‏"‏والله لأفعلن‏"‏ ثم لا يفعل‏.‏ ويمينان لا يكفران، وهو أن يقول الرجل ‏"‏والله ما فعلت‏"‏، وقد فعل أو يقول ‏"‏والله لقد فعلت‏"‏ وما فعل‏.‏

قال المروزي‏:‏ أما اليمينان الأوليان، فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال سفيان‏.‏ وأما اليمينان الأُخريان، فقد اختلف أهل العلم فيهما فإن كان الحالف حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا، أو أنه فعل كذا وكذا عند نفسه صادقًا يرى أنه على ما حلف عليه، فلا إثم عليه ولا كفّارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي وكذلك قال أحمد وأبو عبيد‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا إثم عليه، وعليه الكفَّارة‏.‏ قال المروزي‏:‏ وليس قول الشافعي في هذا بالقوي، قال‏:‏ وإن كان الحالف على أنه لم يفعل كذا وكذا، وقد فعل، متعمِّدًا للكذب فهو آثم، ولا كفّارة عليه في قول عامَّة العلماء‏.‏ مالك، وسفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور، وأبي عبيد‏.‏ وكان الشافعي يقول‏:‏ يكفر‏.‏ قال‏:‏ وقد روي عن بعض التابعين مثل قول الشافعي، قال المروزي‏:‏ أميل إلى قول مالك وأحمد، اهـ محل الغرض من القرطبي بلفظه، وهو حاصل تحرير المقام في حلف الإنسان ‏"‏لأفعلن‏"‏ أو ‏"‏لا أفعل‏"‏‏.‏

وأما حلفه على وقوع أمر غير فعله، أو عدم وقوعه، كأن يقول‏:‏ والله لقد وقع في الوجود كذا، أو لم يقع في الوجود كذا، فإن حلف على ماض أنه واقع، وهو يعلم عدم وقوعه متعمّدًا الكذب فهي يمين غموس، وإن كان يعتقد وقوعه فظهر نفيه فهي من يمين اللغو كما قدمنا، وإن كان شاكًا فهو كالغموس، وجعله بعضهم من الغموس‏.‏

وإن حلف على مستقبل لا يدري أيقع أم لا‏؟‏ فهو كذلك أيضًا يدخل في يمين الغموس، وأكثر العلماء على أن يمين الغموس لا تكفر لأنها أعظم إثمًا من أن تُكفِّرها كفّارة اليمين‏.‏

وقد قدمنا قول الشافعي بالكفّارة فيها، وفيها عند المالكية تفصيل، وهو وجوب الكفّارة في غير المتعلقة بالزمن الماضي منها، واعلم أن اليمين منقسمة أيضًا إلى يمين منعقدة على بر، ويمين منعقدة على حِنث، فالمنعقدة بر، هي التي لا يلزم حالفها تحليل اليمين كقوله ‏"‏والله لا أفعل كذا‏"‏، والمنعقدة على حنث، هي التي يلزم صاحبها حل اليمين بفعل ما حلف عليه، أو بالكفّارة كقوله ‏"‏والله لأفعلن كذا‏"‏، ولا يحكم بحنثه في المنعقدة على حنث حتى يفوت إمكان فعل ما حلف عليه، إلا إذا كانت موقَّتة بوقت فيحنث بفواته، ولكن إن كانت بطلاق كقوله على طلاقها ‏"‏لأفعلن كذا‏"‏ فإنه يمنع من وطئها حتَّى يفعل ما حلف عليه، لأنه لا يدري أيبر في يمينه أم يحنث‏؟‏ ولا يجوز الإقدام على فرج مشكوك فيه عند جماعة من العلماء منهم مالك وأصحابه‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ لا يمنع من الوطء، لأنها زوجته، والطلاق لم يقع بالفعل، وممّن قال به أحمد‏.‏

المسألة الثانية‏:‏ اعلم أن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله وصفاته، فلا يجوز القسم بمخلوق لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من كان حالفًا فليحلف بالله، أو ليصمت‏"‏، ولا تنعقد يمين بمخلوق كائنًا من كان، كما أنها لا تجوز بإجماع من يعتد به من أهل العلم، وبالنص الصحيح الصريح في منع الحلف بغير الله، فقول بعض أهل العلم بانعقاد اليمين به صلى الله عليه وسلم لتوقف إسلام المرء على الإيمان به ظاهر البطلان، والله تعالى أعلم‏.‏ * * *

المسألة الثالثة‏:‏ يخرج من عهدة اليمين بواحد من ثلاثة أشياء‏:‏

الأول‏:‏ إبرارها بفعل ما حلف عليه‏.‏

الثاني‏:‏ الكفَّارة، وهي جائزة قبل الحنث وبعده على التحقيق‏.‏

الثالث‏:‏ الاستثناء بنحو إن شاء الله، والتحقيق أنه حل لليمين لا بدل من الكفارة، كما زعمه ابن الماجشون، ويشترط فيه قصد التلفُّظ به، والاتصال باليمين، فلا يقبل الفصل بغير ضروري كالسعال، والعطاس، وما ذهب إليه ابن عباس وغيره من جواز تراخي الاستثناء‏.‏

فالتحقيق فيه أن المراد به أن العبد يلزمه إذا قال ‏"‏لأفعلن كذا‏"‏ أن يقول‏:‏ إن شاء الله، كما صرح به تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلاَّ أَن يَشَاء اللَّهُ‏}‏ فإن نسي الاستثناء بإن شاء، وتذكره ولو بعد فصل، فإنه يقول‏:‏ إن شاء الله‏.‏ ليخرج بذلك من عهدة عدم تفويض الأمور إلى الله وتعليقها بمشيئته، لا من حيث إنه يحل اليمين التي مضت وانعقدت‏.‏

ويدل لهذا أنه تعالى قال لأيُّوب‏:‏ ‏{‏وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏، ولو كان تدارك الاستثناء ممكنًا لقال له قل‏:‏ إن شاء الله، ويدل له أيضًا أنه ولو كان كذلك لما علم انعقاد يمين لإمكان أن يلحقها الاستثناء المتأخر، واعلم أن الاستثناء بإن شاء الله يفيد في الحلف بالله إجماعًا‏.‏

واختلف العلماء في غيره كالحلف بالطلاق والظهار والعتق، كأن يقول‏:‏ إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله، أو أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، أو أنت حرة إن شاء الله، فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يفيد في شيء من ذلك، لأن هذه ليست أيمانًا، وإنما هي تعليقات للعتق والظهار والطلاق‏.‏ والاستثناء بالمشيئة إنما ورد به الشرع في اليمين دون التعليق، وهذا مذهب مالك وأصحابه، وبه قال الحسن، والأوزاعي، وقتادة، ورجحه ابن العربي وغيره‏.‏

وذهب جماعة من العلماء إلى أنه يفيد في ذلك كلِّه، وبه قال الشافعي‏.‏ وأبو حنيفة، وطاوس، وحماد، وأبو ثور، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وفرق قوم بين الظهار وبين العتق والطلاق، لأن الظهار فيه كفارة فهو يمين تنحل بالاستثناء، كاليمين بالله والنذر، ونقله ابن قدامة في المغني عن أبي موسى، وجزم هو به‏.‏ * * *

المسألة الرابعة‏:‏ لو فعل المحلوف عن فعله ناسيًا، ففيه للعلماء ثلاثة مذاهب‏:‏

الأول‏:‏ لا حِنث عليه مطلقًا، لأنه معذور بالنسيان، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ‏}‏ ، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ‏}‏، وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد، وابن أبي حاتم، فإن العلماء تلقوه بالقبول قديمًا وحديثًا، ويشهد له ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ ‏{‏ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا‏}‏ ، قال الله نعم‏"‏ ومن حديث ابن عباس‏:‏ قال الله ‏"‏قد فعلت‏"‏ وكون من فعل ناسيًا لا يحنث هو قول عطاء، وعمرو بن دينار، وابن أبي نجيح، وإسحاق، ورواية عن أحمد، كما قاله صاحب المغني، ووجه هذا القول ظاهر للأدلة التي ذكرنا‏.‏

الثاني‏:‏ وذهب قوم إلى أنه يحنث مطلقًا، وهو مشهور مذهب مالك، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد والزهري وقتادة، وربيعة وأبو حنيفة وهو أحد قولي الشافعي، كما نقله عنهم صاحب المغني، ووجه هذا القول عند القائل به أنه فعل ما حلف لا يفعله عمدًا، فلما كان عامدًا للفعل الذي هو سبب الحنث لم يعذر بنسيانه اليمين، ولا يخفى عدم ظهوره‏.‏

الثالث‏:‏ وذهب قوم إلى الفرق بين الطلاق والعتق وبين غيرهما، فلا يعذر بالنسيان في الطلاق والعتق، ويعذر به في غيرهما، وهذا هو ظاهر مذهب الإمام أحمد، كما قاله صاحب المغني قال‏:‏ واختاره الخلال، وصاحبه، وهو قول أبي عبيد‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ وهذا القول الأخير له وجه من النظر، لأن في الطلاق والعتق حقًّا لله وحقًا للآدمي، والحالف يمكن أن يكون متعمدًا في نفس الأمر، ويدعي النسيان لأن العمد من القصود الكامنة التي لا تظهر حقيقتها للناس، فلو عذر بادعاء النسيان لأمكن تأدية ذلك إلى ضياع حقوق الآدمييِّن، والعلم عند الله تعالى‏.‏ * * *

المسألة الخامسة‏:‏ إذا حلف لا يفعل أمرًا مِن المعروف كالإصلاح بين الناس ونحوه، فليس له الامتناع من ذلك، والتعلُّل باليمين بل عليه أن يكفر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏، أي لا تَجْعَلوا أيمانكم بالله تعالى مانِعة لكم من البر، وصِلَة الرحم إذا حلفتم على تَرْكها، ونظير الآية قوله تعالى في حلف أبي بكر رضي الله عنه ألا ينفق على مسطح، لما قال في عائشة رضي الله عنها ما قال‏:‏ ‏{‏وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والله لأن يَلِج أحَدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفَّارته التي افترض الله عليه‏"‏، متفق عليه من حديث أبي هريرة‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني والله ـ إن شاء الله ـ لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها‏"‏، متفق عليه أيضًا من حديث أبي موسى‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمان بن سمرة‏:‏ ‏"‏يا عبد الرحمن بن سمرةا لا تسأل الإمارة فإنَّك إن أُعطيتها مِن غير مسألة أعنت عليها، وإن أُعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك‏"‏، متفق عليه أيضًا، والأحاديث في الباب كثيرة‏.‏ وهذا هو الحقّ في المسألة خلافًا لمن قال‏:‏ كفّارتها تركها متمسِّكًا بأحاديث وردت في ذلك، قال أبو داود‏:‏ والأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم كلها‏:‏ ‏"‏فليكفِّر عن يمينه‏"‏، وهي الصحاح، والعلم عند الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتحرير رقبة‏}‏‏.‏

لم يقيد هنا ‏{‏رقبة‏}‏ كفّارة اليمين بالإيمان، وقيد به كفّارة القتل خطأ‏.‏

وهذه من مسائل المطلق والمقَيَّد في حالة اتِّفاق الحكم، مع اختلاف السبب، وكثير من العلماء يقولون فيه بحَمْل المُطْلق على المُقَيَّد فتُقَيَّد رَقَبة اليمين والظِّهار بالقَيد الذي في رَقَبة القَتْل خَطأ، حملًا للمُطْلَق على المقيَّد، وخالف في ذلك أبو حنيفة ومن وافقه‏.‏

وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ‏(‏دَفْع إيهام الاضطراب‏)‏ في سورة النساء عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏، ولذلك لم نُطل الكلام بها هنا، والمراد بالتحرير الإخراج من الرقّ، وربّما استعملته العرب في الإخراج مِن الأسر والمشقّات، وتعب الدنيا ونحو ذلك، ومنه قول والدة مريم ‏{‏إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا‏}‏ أي من تعب أعمال الدُّنيا، ومنه قول الفرزدق همام بن غالب التميمي‏:‏ أبني غدانة إنِّي حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال

يعني حررتكم من الهجاء، فلا أهجوكم‏.‏

‏{‏إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ‏}‏‏.‏

يفهم مِن هذه الآية الكريمة أن الخمر نجسة العين، لأن الله تعالى قال‏:‏ إنها رجس، والرِّجْس في كلام العرب كل مستقذر تعافه النفس‏.‏

وقيل‏:‏ إن أصله من الركس، وهو العذرة والنتن‏.‏ قال بعض العلماء‏:‏ ويدل لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنَّة ‏{‏وسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا‏}‏ ، لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه، أن خمر الدنيا ليستْ كذلك، ومما يؤيِّد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا، كقوله‏:‏ ‏{‏لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ‏}‏ ، وكقوله‏:‏ ‏{‏لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ‏}‏ ، بخلاف خمر الدنيا ففيها غَوْل يغتال العقُول وأهلها يصدَّعون‏.‏ أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها، وقوله ‏{‏لا يُنزَفُونَ‏}‏ على قراءة فتح الزاي مبنيًا للمفعول، فمعناه‏:‏ أنهم لا يسكرون، والنزيف السكران، ومنه قول حميد بن ثور‏:‏

نزيف ترى ردع العبير بجيبها كما ضرج الضاري النزيفُ المكلما

يعني أنها في ثقل حركتها كالسكران، وأن حمرة العبير الذي هو الطيب في جيبها كحمرة الدم على الطريد الذي ضرجه الجوارح بدمه‏:‏ فأصابه نزيف الدم من جرح الجوارح له، ومنه أيضًا قول امرىء القيس‏:‏

وإذ هي تمشي كمشّي النزيف يصرعه بالكثِيب البهر

وقوله أيضًا‏:‏ نزيف إذا قامتْ لوجه تمايلت تراشى الفؤاد الرخص ألا تخترا

وقول ابن أبِي ربيعة أو جميل‏:‏

فلثمتُ فاها آخذًا بقرونِها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وعلى قراءة ‏{‏يُنزَفُونَ‏}‏ بكسر الزاي مبنيًا للفاعل، ففيه وجهان من التفسير للعلماء‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه من أنزف القوم إذا حان منهم النزف وهو السكر‏.‏ ونظيره قولهم‏:‏ أحصد الزرع إذا حان حصاده وأقطف العنب إذا حان قطافه، وهذا القول معناه راجع إلى الأول‏.‏

والثاني‏:‏ أنه من أنزف القوم إذا فنيت خمورهم، ومنه قول الحَطيئة‏:‏

لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتموا لَبِئس الندامى أنتم آل أبجرا

وجماهير العلماء على أن الخمر نجسة العين لما ذكرنا، وخالف في ذلك ربيعة واللَّيث، والمزني صاحب الشافعي، وبعض المتأخِّرين من البغدادِيِّين والقرويِّين، كما نقله عنهم القرطبي في تفسيره‏.‏

واستدلُّوا لطهارة عينها بأن المذكورات معها في الآية من مال ميسر، ومال قِمار وأنصاب وأَزلام ليست نجسة العين، وإن كانت محرَّمة الاستعمال‏.‏

وأُجِيب من جهة الجمهور بأن قوله ‏{‏رِجْسٌ‏}‏ يقتضي نجاسة العين في الكل، فما أخْرجه إجماع، أو نصّ خرج بذلك، وما لم يخْرجه نصّ ولا إجماع، لزم الحكم بنجاسته، لأن خروج بعض ما تناوله العام بمخصّص من المخصصات، لا يسقط الاحتجاج به في الباقي، كما هو مقرر في الأصول، وإليه الإشارة بقول صاحب مراقي السعود‏:‏

وهو حجّة لدى الأكثر إن مخصّص له معينًا يبِن

وعلى هذا، فالمسكر الذي عمت البلوي اليوم بالتطيُّب به المعروف في اللِّسان الدارجي بالكولانيا نجس لا تجوز الصلاة به، ويؤيده أن قوله تعالى في المسكر ‏{‏فَاجْتَنِبُوهُ‏}‏ يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء من المُسكر، وما معه في الآية بوجه من الوجوه، كما قاله القرطبي وغيره‏.‏

قال مُقيِّده عفا الله عنه‏:‏ لا يخفَى على منصف أن التضمخ بالطِّيب المذكور والتلذذ بريحه واستطابته‏.‏ واستحسانه مع أنه مسكر، والله يصرح في كتابة بأن الخمر رجس فيه ما فيه، فليس للمسلم أن يتطيب بما يسمع ربَّه يقول فيه‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ * رِجْسٌ‏}‏ كما هو واضح، ويؤيده ‏"‏أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الخمر‏"‏ فلو كانت فيها منفعة أخرى لبينها، كما بين جواز الانتفاع بجلود الميتة، ولما أراقها‏.‏

واعلم أن ما استدل به سعيد بن الحداد، القروي على طهارة عَين الخمر بأن الصحابة أراقوها في طرق المدينة، ولو كانت نجسة، لما فعلوا ذلك ولَنهاهم النَّبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما نهاهم عن التخلي في الطرق، لا دليل له فيه، فإنها لا تعم الطرق، بل يمكن التحرز منها، لأن المدينة كانت واسِعة، ولم تكُن الخمر كثيرة جِدًا بحيث تكون نَهرًا أو سيلًا في الطرق يَعمُّها كلها، وإنما أُرِيقت في مواضع يسيرة يمكن التحرز منها، قاله القرطبي، وهو ظاهر‏.‏

{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏‏.‏ هذه الآية الكريمة يفهم من دليل خطابها أي مفهوم مخالفتها أنهم إن حلوا من إحرامهم، جاز لهم قتل الصيد، وهذا المفهوم مصرح به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ‏}‏، يعني إن شئتم كما تقدم إيضاحه في أول هذه السورة الكريمة‏.‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ‏}‏قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا‏}‏‏.‏

ذَهب جمهور العلماء إلى أن معنى هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا‏}‏ لِقَتْلِه ذاكرًا لاِحْرامه، وخالف مجاهد ـ رَحمه الله ـ الجمهور قائلًا‏:‏ إن معنى الآية‏:‏ ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا‏}‏ لِقَتْله في حال كونه ناسيًا لإحْرامه، واستدل لِذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ‏}‏، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى‏.‏

وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب أن مِن أنواع البيان التي تضمنها أنْ يقول بعض العلماء في الآية قولًا، ويكون فيها قرينة دالة على عدم صحّة ذلك القول‏.‏ وإذا عرفت ذلك فاعلم أن في الآية قرينة واضحة دالة على عدم صحّة قول مجاهد رحمه الله، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ‏}‏، فإنه يدل على أنه مُتعمِّدًا أمرًا لا يجوز، أما الناسي فهو غَير آثِم إجماعًا، فلا يناسِب أن يقال فيه‏:‏ ‏{‏لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ‏}‏، كما ترى، والعِلْم عند الله تعالى‏.‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ‏}‏‏.‏

ظاهر عموم هذه الآية الكريمة يشمل إباحة صيد البحر للمحرم بحج أو عمرة، وهو كذلك، كما بينه تخصيصه تعالى تحريم الصيد على المحرم بصيد البر في قوله‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏، فإنه يفهم منه أن صيد البحر لا يحرم على المحرم، كما هو ظاهر‏.‏ * * *

مسائل تتعلق بالاصطياد في الإحرام أو في الحرم

المسألة الأولى‏:‏ اجمع العلماء على منع صيد البر للمحرم بحج أو عمرة‏.‏

وهذا الإجماع في مأكول اللحم الوحشي كالظبي والغزال ونحو ذلك، وتحرم عليه الإشارة إلى الصيد والدلالة عليه، لما ثبت في الصّحيحين من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، ‏"‏أنه كان مع قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حَلاَلٌ وهم مُحْرِمُونَ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم محرم أمَامَهُمْ، فَأَبْصَروا حِمَارًا وَحْشِيًا وأبو قتادة مشغول يخْصِفُ نعله فلم يؤذنوه، وأحبوا لو أنه أبصره فأبصره فأسرج فرسه‏.‏ ثم ركب ونسي سوطه ورمحه فقال لهم‏:‏ ناولوني السّوط والرمح، فقالوا‏:‏ والله لا نعينك عليه، فغضب فنزل فأخذهما فركِبَ فَشَدَّ على الحمار فَعَقَرَهُ ثم جاء به، وقد مات فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شَكوا في أكلهم إيَّاه وهم حُرم، فأدركوا النَّبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه فَقَرَّرَهُم على أكله، وناوله أبو قتادة عضُدَ الحمار الوحشي، فأكل منها صلى الله عليه وسلم‏"‏، ولمسلم ‏"‏هل أشار إليه إنسان أو أمره بشيء، قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فكلوه‏"‏‏.‏

وللبخاري ‏"‏هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليها قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فكلوا ما بقى من لحمها‏"‏، وقد أجمع جميع العلماء على أن ما صاده محرم لا يجوز أكله للمحرم الذي صاده، ولا لمحرم غيره، ولا لحلال غير محرم لأنه ميتة‏.‏

واختلف العلماء في أكل المحرم مما صاده حلال على ثلاثة أقوال، قيل‏:‏ لا يجوز له الأكل مطلقًا، وقيل‏:‏ يجوز مطلقًا، وقيل‏:‏ بالتفصيل بين ما صاده لأجله، وما صاده لا لأجله فيمنع الأول دون الثاني‏.‏

واحتج أهل القوم الأول بحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه ‏"‏أنه أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا وهو بالأبواء أبو بودان فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال‏:‏ إنا لم نرده عليك إلا أنا حرام‏"‏ متفق عليه، ولأحمد ومسلم ‏"‏لحم حمار وحشي‏"‏‏.‏

واحتجوا أيضًا بحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه ‏"‏أن النَّبي صلى الله عليه وسلم أهدي له عضو من لحم صيد فرده، وقال‏:‏ إنا لا نأكله إنا حرم‏"‏ أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي‏.‏

واحتجوا أيضًا بعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا‏}‏ ، ويروى هذا القول عن علي وابن عباس وابن عمر، والليث والثوري وإسحاق وعائشة وغيرهم‏.‏

واحتج من قال‏:‏ بجواز أكل المحرم ما صاده الحلال مطلقًا بعموم الأحاديث الواردة بجواز أكل المحرم من صيد الحلال، كحديث طلحة بن عبيد الله عند مسلم، والإمام أحمد ‏"‏أنه كان في قوم محرمين فأهدي لهم طير، وطلحة راقد، فمنهم من أكل ومنهم من تورع فلم يأكل فلما استيقظ طلحة رضي الله عنه وفق من أكله وقال‏:‏ ‏"‏أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏"‏‏.‏

وكحديث البهزي واسمه زيد بن كعب، أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم في حمار وحشي عقير في بعض وادي الروحاء وهو صاحبه ‏"‏شأنكم بهذا الحمار، فأمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق وهم محرمون‏"‏، أخرجه الإمامان مالك في موطئه وأحمد في مسنده، والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره، كما قاله ابن حجر، وممن قال بإباحته مطلقًا أبو حنيفة وأصحابه‏.‏

قال مقيده، عفا الله عنه‏:‏ أظهر الأقوال وأقواها دليلًا، هو القول المفصل بين ما صيد لأجل المحرم، فلا يحل له، وبين ما صاده الحلال، لا لأجل المحرم، فإنه يحل له‏.‏

والدليل على هذا أمران‏:‏

الأول‏:‏ أن الجمع بين الأدلة واجب متى ما أمكن، لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا طريق للجمع إلا هذه الطريق‏.‏

ومن عدل عنها لا بد أن يلغي نصوصًا صحيحة‏.‏

الثاني‏:‏ أن جابرًا رضي الله عنه، روى عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏صيد البر لكم حلال، وأنتم حرم ما لم تصيدوه، أو يصد لكم‏"‏، رواه الإمام أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، والدارقطني‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ هذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس، فإن قيل في إسناد هذا الحديث، عمرو بن أبي عمرو، مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن مولاه المطلب، عن جابر، وعمرو مختلف فيه، قال فيه النسائي‏:‏ ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك‏.‏

وقال الترمذي في مولاه المطلب أيضًا‏:‏ لا يعرف له سماع من جابر، وقال فيه الترمذي أيضًا في موضع آخر قال محمد‏:‏ لا أعرف له سماعًا من أحد من الصحابة، إلا قوله حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فالجواب أن هذا كله ليس فيه ما يقتضي رد هذا الحديث، لأن عمرًا المذكور ثقة، وهو من رجال البخاري ومسلم، وممن روى عنه مالك بن أنس، وكل ذلك يدل على أنه ثقة، وقال فيه ابن حجر في ‏(‏التقريب‏)‏‏:‏ ثقة ربما وهم، وقال فيه النووي في ‏(‏شرح المهذب‏)‏‏:‏ أما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت، لأن البخاري، ومسلمًا رويا له في صحيحيهما، واحتجا به، وهما القدوة في هذا الباب‏.‏

وقد احتج به مالك، وروى عنه وهو القدوة، وقد عرف من عادته أنه لا يروي في كتابه إلا عن ثقة، وقال أحمد بن حنبل فيه‏:‏ ليس به بأس، وقال أبو زرعة‏:‏ هو ثقة، وقال أبو حاتم‏:‏ لا بأس به‏.‏

وقال ابن عدي‏:‏ لا بأس به، لأن مالكًا روى عنه، ولا يروي مالك إلا عن صدوق ثقة، قلت‏:‏ وقد عُرِف أن الجرح لا يثبت إلا مفسرًا، ولم يفسره ابن معين، والنسائي بما يثبت تضعيف عمرو المذكور، وقول الترمذي‏:‏ إن مولاه المطلب بن عبد الله بن حنطب، لا يعرف له سماع من جابر، وقول البخاري للترمذي‏:‏ لا أعرف له سماعًا من أحد من الصحابة إلا قوله‏:‏ حدثني من شهد خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس في شيء من ذلك ما يقتضي رد روايته، لما قدمنا في سورة النساء من أن التحقيق هو الاكتفاء بالمعاصرة‏.‏

ولا يلزم ثبوت اللقي، وأحرى ثبوت السماع، كما أوضحه الإمام مسلم بن الحجاج ـ رحمه الله تعالى ـ في مقدمة صحيحه، بما لا مزيد عليه مع أن البخاري ذكر في كلامه هذا الذي نقله عنه الترمذي، أن المطلب مولى عمرو بن أبي عمرو المذكور، صرح بالتحديث ممن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهو تصريح بالسماع من بعض الصحابة بلا

شك‏.‏ ع وقال النووي في ‏(‏شرح المهذب‏)‏‏:‏ وأما إدراك المطلب لجابر‏.‏ فقال ابن أبي حاتم، وروى عن جابر قال‏:‏ ويشبه أن يكون أدركه، هذا هو كلام ابن أبي حاتم، فحصل شك في إدراكه، ومذهب مسلم بن الحجاج الذي ادعى في مقدمة صحيحه الإجماع فيه أنه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء، بل يكتفي بإمكانه، والإمكان حاصل قطعًا، ومذهب علي بن المديني، والبخاري، والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء، فعلى مذهب مسلم الحديث متصل، وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلًا لبعض كبار التابعين، وقد سبق أن مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة‏.‏ أو قول أكثر العلماء، أو غير ذلك مما سبق‏.‏

وقد اعتضد هذا الحديث، فقال به من الصحابة رضي الله عنهم، من سنذكره في فرع مذاهب العلماء اهـ، كلام النووي، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور على كل التقديرات، على مذاهب الأئمة الأربعة‏.‏ لأن الشافعي منهم هو الذي لا يحتج بالمرسل، وقد عرفت احتجاجه بهذا الحديث على تقدير إرساله‏.‏

قال مقيده عفا الله عنه‏:‏ نعم يشترط في قبول رواية ‏(‏المدلس‏)‏ التصريح بالسماع والمطلب المذكور مدلس، لكن مشهور مذهب مالك، وأبي حنيفة وأحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ صحة الاحتجاج بالمرسل، ولا سيما إذا اعتضد بغيره كما هنا، وقد علمت من كلام النووي موافقة الشافعية‏.‏

واحتج من قال بأن المرسل حجة بأن العدل لا يحذف الواسطة مع الجزم بنسبة الحديث لمن فوقها، إلا وهو جازم بالعدالة والثقة فيمن حذفه، حتى قال بعض المالكية‏:‏ إن المرسل مقدم على المسند‏.‏ لأنه ما حذف الواسطة في المرسل إلا وهو متكفل بالعدالة والثقة فيما حذف بخلاف المسند، فإنه يحيل الناظر عليه، ولا يتكفل له بالعدالة والثقة، وإلى هذا أشار في ‏(‏مراقي السعود‏)‏ بقوله في مبحث المرسل‏:‏ وهو حجة ولكن رجحا عليه مسند وعكس صححا

ومن المعلوم أن من يحتج بالمرسل يحتج بعنعنة المدلس من باب أولى، فظهرت صحة الاحتجاج بالحديث المذكور عند مالك وأبي حنيفة وأحمد مع أن هذا الحديث له شاهد عند الخطيب وابن عدي من رواية عثمان بن خالد المخزومي، عن مالك عن نافع عن ابن عمر، كما نقله ابن حجر في التلخيص وغيره وهو يقويه‏.‏

وإن كان عثمان المذكور ضعيفًا لأن الضعيف يقوِّي المرسل، كما عُرف في علوم الحديث، فالظاهر أن حديث جابر هذا صالح، وأنه نص في محل النزاع، وهو جمع بين هذه الأدلة بعين الجمع الذي ذكرنا أولًا، فاتضح بهذا أن الأحاديث الدالة على منع أكل المحرم مما صاده الحلال كلها محمولة على أنه صاده من أجله، وأن الأحاديث الدالة على إباحة الأكل منه محمولة على أنه لم يصده من أجله، ولو صاده لأجل محرم معين حرم على جميع المحرمين خلافًا لمن قال‏:‏ لا يحرم إلا على ذلك المحرم المعين الذي صيد من أجله‏.‏

ويَروى هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أو يصَدْ لكم‏"‏ ويدل للأول ظاهر قوله في حديث أبي قتادة، ‏"‏هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار لها‏؟‏ قالوا‏:‏ لا، قال‏:‏ فكلوه‏"‏ فمهومه أن إشارة واحد منهم تحرمه عليهم كلهم، ويدل له أيضًا ما رواه أبو داود عن علي ‏"‏أنه دُعِيَ وهو محرم إلى طعام عليه صيد فقال ‏"‏أطعموه حلالًا فإنا حرم‏"‏، وهذا مشهور مذهب مالك عند أصحابه مع اختلاف قوله في ذلك‏.‏ * * *

المسألة الثانية‏:‏ لا تجوز زكاة المحرم للصيد بأن يذبحه مثلًا، فإن ذبحه فهو ميتة لا يحل أكله لأحد كائنًا من كان إذ لا فرق بين قتله بالعقر وقتله بالذبح، لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏، وبهذا قال مالك وأصحابه كما نقله عنهم القرطبي وغيره، وبه قال الحسن، والقاسم وسالم، والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه، وقال الحكم والثوري وأبو ثور‏:‏ لا بأس بأكله، قال ابن المنذر‏:‏ هو بمنزلة ذبيحة السارق‏.‏

وقال عمرو بن دينار وأيوب السختياني يأكله الحلال، وهو أحد قولي الشافعي، كما نقله عنهم ابن قدامة في المغني، وغيره‏.‏

واحتج أهل هذا القول بأن من أباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالحلال، والظاهر هو ما تقدم من أن ذبح المحرم لا يحل الصيد، ولا يعتبر ذكاة له، لأن قتل الصيد حرام عليه، ولأن ذكاته لا تحل له هو أكله إجماعًا، وإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح، فأولى وأحرى ألا يفيد لغيره، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه، فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله، قاله القرطبي، وهو ظاهر‏.‏ * * *

المسألة الثالثة‏:‏ الحيوان البِّريٌ ثلاثة أقسام‏:‏ قسم هو صيد إجماعًا، وهو ما كالغزال من كل وحشي حلال الأكل، فيمنع قتله للمحرم، وإن قتله فعليه الجزاء‏.‏ وقسم ليس بصيد إجماعًا، ولا بأس بقتله، وقسم اختلف فيه‏.‏

أما القسم الذي لا بأس بقتله، وليس بصيد إجماعًا فهو الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور‏.‏

وأما للقسم المختلف فيه‏:‏ فكالأسد، والنمر، والفهد والذئب، وقد روى الشيخان في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ ‏"‏أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل، والحرم‏:‏ الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور‏"‏‏.‏

وفي الصحيحين أيضًا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح‏"‏ ثم عد الخمس المذكورة آنفًا، ولا شك أن الحية أولى بالقتل من العقرب‏.‏